الدولة الفلسطينيةوالوحدة الوطنية الفلسطينية !!بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي كثيراً ما كتبتُ عن قضيّة فلسطين ! ولكن القضيَّة في هذه اللحظات تأخذ بعداً جديداً
، أشعر معها بوجوب النصح الخالص لوجه الله ، نصحاً يحمل الوضوح والصدق والحجة والبيّنة !
نوجز المراحل السابقة لقضية فلسطين بمسلسل التنازل الذي مرَّت به . فقد كانت أول أمرها قضيّة إسلامية تمسّ كلّ مسلم ، وكل قطر إسلامي ، من حيث الشعار والعاطفة والمحاولات ، ولكن الجهود التي بذلت لجعلها مسؤولية العالم الإسلامي كلِّه فشلت . وما أتت سنة 1948م حتى أصبحت قضيةً عربية ، تولاها العرب وحدهم ، فدخلوا معركة مع اليهود هُزموا بها ، وقامت دولة اليهود ، وشُرِّد أهل فلسطين . وفي الستينيات من القرن الماضي امتدَّ التنازل حتى أصبحت القضيَّةُ قضيةَ الفلسطينيين وحدَهم ، وأُعلن ذلك رسمياً وقامت منظمة التحرير لتنال دعم العرب كلهم ، وليرضى بذلك الفلسطينيون دون أن يدرسوا مدى إمكاناتهم ومدى إمكانات العدو ، ودون وضع أيُّ خُطَّة مسؤولة . لقد كانت هذه التنازلات خطأً كبيراً في ميزان الإسلام ، خطأً من الذين قاموا به . وقبول الفلسطينيين أن تحصر القضية بهم ، وأنها قضية خاصة بالشعب الفلسطيني خطأ كبير جداً وقع فيه الفلسطينيون . فالقضية قضية الأمة المسلمة كلها ، وهذا الخطأ من هنا أو هناك يتناقض مع حقيقة القضية في ميزان الإسلام ، ومع الشعارات المدوية التي كان ينادي بها المسلمون زمناً طويلاً . وانطلق الجميع في ضجيج الشعارات والعواطف الجيَّاشة ، حتى صُدِموا بالواقع فغُيِّر الميثاق واعْتُرِف بدولة اليهود ، ووقف الفلسطينيون أمام الواقع المرّ ، لا يستطيعون أن يجابهوا دولة اليهود عسكرياً ، ولا يستطيعون أن يحققوا أهداف الشعارات المدويَّة. فَلْتَتَبَدَّل الشعارات ، ولْيَعْلُ ضجيج الشعارات الجديدة ، لتمثّل مرحلة جديدة في مسلسل التنازلات ، فتختفي شعارات تحرير فلسطين كلها ، ومصطلحات إلقاء اليهود ودولتهم في البحر ، وأمثال هذه المصطلحات ، طُويت كلُّها مع مرحلة التنازلات الجديدة ، ودارت المفاوضات هنا وهناك : كامب ديفيد ، أوسلو ، وراء الكواليس، مما خفي ومما عرف ، وغير ذلك . وأُطْلِقَ شعار جديد ليمثّل مرحلة جديدة خطيرة من التنازلات في قضية فلسطين ، أطلق شعار الدولة الفلسطينية على جزء من أرض فلسطين . وأصبحت هذه الدولة هي موضوع القضية كلِّها ، وأخذت الجهود تُبْذَلُ من أجلها ، ودار الصراع والأعمال الفدائية من أجل الدولة الفلسطينية المزعومة أو الموهومة ، وأصبحت مطلب الفصائل الفلسطينية وموضع تنافسهم عليها . وأكد ذلك " بوش " رئيس أمريكا بوعد قطعه على نفسه بأن يقيم الدولة الفلسطينية سنة 2005م ، ليكون هناك دولتان تتعايشان معاً في سلام! وهو وعد يضاف إلى سائر وعود بوش الكاذبة وسائر الوعود الكاذبة في تاريخ قضيَّة فلسطين وتاريخ المسلمين . فأصبح أمام الفلسطينيين هدف جديد يُغذّيه دويُّ الإعلام ، هدف إقامة الدولة الفلسطينية ، حتى أصبح هذا الهدف الأمل الحقيقي والمطلب الجاد . وصدرت تصريحاتٌ جلية واضحة من جميع الفئات المعنيَّة سياسياً وفي الميدان ، وجعلوا حدودها حدود سنة 1967م ، لتنسحب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها آنذاك ، والتي أصبحت تسمَّى الأرض المحتلة في وسائل الإعلام ، وعلى ألسنة السياسيين ، وألسنة المقاتلين بمختلف اتجاهاتهم ، وكأنَّ الأرض التي احتلّتها إسرائيل سابقاً لم تعد أرضاً محتلَّة ، وكأنَّ هذا اعتراف واضح لا يخفى بإسرائيل . ومن يدَّعي بعد ذلك من أولئك بأنه لن يعترف بإسرائيل حتى تنسحب من الأراضي المحتلة وتعترف بحقوق الفلسطينيين، وتُطْلِقُ سراح الأسرى ، وتُقِرَّ بِحَقِّ العودة ، وما شابه ذلك ، فإنه ادعاء لا يغير الحقيقة بأن التصريحات اعتراف واضح بإسرائيل . المهم هنا ، والذي يستحقُّ الوقفة الطويلة هو المطالبة بانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة سنة 1967م ، وكأنَّ الباقي ليس محتلاً ! والمطالبة بالإفراج عن الأسرى وبحقِّ العودة لمن يشاء .
إنَّ موضوع الدولة الفلسطينية وطرحه نقل القضية الفلسطينية نقلة خطيرة واسعة ، وانحرف بها انحرافاً كبيراً ، ونجح أصحاب الفكرة المخفيين في تحقيق غايتهم بهذا الانحراف ، وانجرف الفلسطينيون وغيرهم بذلك . لا نشكُّ أبداً أن الغاية من طرح هذا الموضوع هو إشغال الفلسطينيين أولاً بعد أن أصبحت القضية في أيديهم ، إشغالهم عن الهدف الرئيس الذي كانوا يعلنونه ويقاتلون من أجله وهو تحرير فلسطين كلِّها . فقد أصبح القتال الآن في هذه المرحلة للمناداة بالدولة الفلسطينية وبحدودها التي ذكرناها ، وأصبحت هي الشعار والهدف والأمنية . وبذلك أُضيف اعتراف جديد بحق إسرائيل في الوجود ، وأصبح هذا الهدف الجديد باباً لانحراف آخر يبرز مع الأيام .
لقد هلل الإعلام كله لقيام منظمة التحرير ، حتى أصبحت هي موضع تقدير الشعوب والحكومات ، وأصبح ياسر عرفات هو الرمز ، حتى عندما تنازل عن مبدأ تحرير فلسطين إلى المناداة بدولة فلسطينية ، وحتى عندما نادى بدولة علمانية، فقد ظلَّت الشعوب مرتبطة بوسائل الإعلام التي تدفع الناس هكذا أو هكذا، ويتجاوب الناس معها كلَّ التجاوب ، دون وجود من ينصح أو ينتقد أو يوجّه! وقد وضح بشكل يقيني أنه لم يكن لدى المنظمة ولا لدى عرفات وقيادتها كلها ولا لدى غيرهم ، خطة أو نهج لتحقيق ما يطرحون من شعارات . ولا ننسى تصريح جمال عبد الناصر الذي قامت ثورته من أجل قضيَّة فلسطين وتحريرها كلها ودوَّت الشعارات بذلك ، حتى كان ذات يوم أن أعلن فيه وقال : " أنا لا يوجد لديَّ خطة لتحرير فلسطين ، فمن كانت لديه خطة فليتفضَّل"! وكذلك قام زعماء آخرون باسم فلسطين ، ولمَّا وصلوا باسمها إلى سدَّة الحكم أعلنوا عجزهم . وظلَّ ضجيج الشعارات هو الذي يحرّك وليس الوعي والنهج والخطة . وظلت المنظمة مسيطرة على الساحة الإعلامية.
وأصبح القتال والفداء هو لإقامة دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين . فما هي هذه الدولة وما هي إمكاناتها ومستقبلها وفائدتها ؟!
إنها تقوم على أرض لا تملك أيّ مقوّمات الدولة ! فالماء يأتيها من إسرائيل والكهرباء من إسرائيل وغير ذلك ، وكثير من العائلات تعتمد في معاشها على عملها في إسرائيل ، والبترول من إسرائيل ، أما رواتب الموظفين فإنها من المعونات الخارجية الأمريكية والأوروبية وغيرها . أيّ أنَّ ميزانيَّة الدولة كلّها مما تجود به الدول الأخرى الملتزمة بحماية إسرائيل !
وهي دولة تقوم منحة من الدول الكبرى ، ولا تقوم على أساس معركة استرجعت قسماً من أرض فلسطين . بل على العكس من ذلك ، فإنَّ المساحة المخصصة لإسرائيل بموجب قرار التقسيم زاد كثيراً بعد الانتفاضات ، واستطاعت إسرائيل أن تضمَّ أراضي جديدة إليها ، بدلاً من أن نسترجع نحن بعض أراضينا . هذه الدولة الفلسطينية ستظلُّ مع الأيام خاضعة لإسرائيل والدول الكبرى ، فهي لا تملك من أمرها شيئاً إلا دويّ الشعارات .
نعتقد أن فكرة هذه الدولة لم تنبع من واقع المسلمين أو العرب أو الفلسطينيين ولا من وعيهم لمسؤولياتهم الشرعية والتكاليف الربانية التي وضعها الله في أعناقهم ، وإنما فكرة نَبَتَتْ هناك عند السياسة الدولية التي كانت هي القوة الحقيقية الموجّهة لمسيرة القضية الفلسطينية منذ بدايتها وفي مراحلها المختلفة كلها، فأٌلْقيَتْ بيننا لِتُشْغلنا عن الهدف الرئيس ، وهو تحرير فلسطين كاملة ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، لتشغل الفلسطينيين بالصراع فيما بينهم بالانتخابات والمجالس وزهوة ذلك، وتصبح الفرحة الكبرى هي الانتصار في الانتخابات والفوز بالمقاعد والكراسي والمناصب والسلطة ! فقد حلّت كلمة الديمقراطية محل كلمة الإسلام في كثير من المناسبات ، كما حلَّت كذلك محل كلمة الإسلام في الفضائيات وهي تحاور عدداً من دعاة الإسلام المسؤولين . لقد كشفت هذه المرحلة تنازلاً جديداً ، ليس في ميدان قضية فلسطين ، ولكن في ميدان الإسلام نفسه . ويبدو أن "الديمقراطية " لم تزحف إلى الألسنة فحسب ، ولكن دخلت القلوب والعقول وأصبحت الشعار الذي يؤثر والهوى الذي يُدْعى إليه . وكم قلنا للدعاة المسلمين ، دعاة الديمقراطية ، إن للديمقراطية دولاً تدعو إليها وجنوداً يدافعون عنها ، وأموالاً تنفق من أجلها ، والإسلام يتلفّت يبحث عن دعاته المتقين الذين لا يدعون إلا إليه طاعة لله ولرسوله، ولا يخلطونه بوثنيات الأهواء والمصالح والمذاهب المادية الدنيوية ! الإسلام الذي أصبحوا به دعاةً مشهورين !
وبدأت الساحة الفلسطينية في غزة تتفجَّر عن صراع مسلح بين فتح وحماس ، فيقع قتلى وجرحى ، ومن خلال ذلك تدوِّي التصريحات : إن الفلسطينيين لا يعرفون لغة الحرب الأهلية ، وإنَّ الدم الفلسطيني حرام ، ولكنَّ الصراع ماضٍ، ومحاولات التهدئة والتوفيق ماضية ، والدم الفلسطيني يراق ، وإسرائيل تتابع هجومها وقصفها وتدمير البيوت واغتيال الناس وقتلهم رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً . الجميع يحاول أن يكسب مجدَه الدنيوي على حساب قضيّة فلسطين والشعب الفلسطيني ! لقد تحوّلت النفوس إلى العصبيات الجاهلية كلُّ يقدّس حزبه وجماعته ويؤيدها بالحق أو بالباطل ، ولم يعد بين أيديهم ميزان إيماني دقيق يزنون به الناس والأحداث .
هذا كله ليس موضوع تساؤلنا ! ولكن الموضوع ما هو النهج والخطة لدى حماس أو فتح ؟! ألم يكونوا يدركون أنه في الميدان لا يجوز أن نقف عند الشعارات ، ولكن يجب مع الشعارات وضع خطة عملية ومنهج تطبيقي لمعالجة النتائج وتحقيق الأهداف والشعارات ؟!
أتساءل ويتساءل كثيرون غيري . ما الذي دفع منظمة التحرير ورجالها وحماساً ورجالها وسائر الفصائل إلى تحمل مسؤولية قضية فلسطين وحدهم ، وقبول تخلِّي العرب والمسلمين عملياً عن القضيّة ، أي عن تحرير فلسطين ؟! وماذا أَعدّوا لذلك ؟! وما هي إمكاناتهم المادية الحقيقية ؟! ألم يكن أمامهم نتائج ومحاولات الدول العربية حكومات وشعوباً ؟! وكيف رفضوا ويرفضون الدخول في معركة عسكرية مع إسرائيل ؟! فإذا كانت الدول العربية ، بجيوشها وسلاحها وشعوبها وخبرائها ، قد تراجعت عن دخول معركة عسكرية بعد تجرّع مرارة هزيمتين منكرتين سنتي 1948 ، 1967م ، فماذا لديكم يا منظمة التحرير ويا حماس ويا سائر الفصائل ، أكثر مما لدى الدول العربيَّة غير العاطفة والشعار ؟! أين الإعداد الذي يكافئ إعداد العدو ؟! أين الإمكانات ؟! لقد انطلقتم منذ اللحظة الأولى ترفعون شعار تحرير فلسطين! إنَّ رفع هذا الشعار الكبير يوحي بأنكم أعددتم الإعداد الذي يناسب هذا الشعار ، حتى لا تخدعوا الناس ، وأنكم التزمتم قوله سبحانه وتعالى :
( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) [ الأنفال : 60 ]
ومع مضيّ السنين ، منذ الانطلاقة ، ماذا أعددتم ؟! الذي تمَّ هو المضيّ في عزل القضيّة عن الإسلام والمسلمين ، والمغالاة بالفلسطينية مغالاة تقرّب من الجاهلية : حق تقرير مصير الفلسطينيين بيد الفلسطينيين ، الـدم الفلسطيني حرام ، من الذي حرّمه وكيف ؟! فكلُّ دمٍ يُسْفك على غير حقٍّ فهو حرام ! ودم المسلم حرام ، الديمقراطية ، الوحدة الوطنية ، الدولة الفلسطينية ، مهرجان الديمقراطية ، عرس الديمقراطية ، وكثير غير ذلك ! لم يعد الميزان ميزان إسلام وإيمان وتقوى .
وجاءت وثيقة الأسرى لِيُدْعى الجميع إلى التزامها . ونسيَ الجميع أو تناسوا أنَّ هناك وثيقة ربَّانيَّة ملزمة يحاسَب الجميع عليها في الآخرة ، ويذوقون في الدنيا مرارة عدم التزامها من هزائم وعذاب شديد .
لم تجد هذه الوثيقة الربانيَّة ـ كتاب الله وسنَّة رسولهr ـ من يدعو إليها وإلى وجوب التزامها ، إلا شعارات تتغيَّر أو تختفي لم تجد من يضع نهجاً تطبيقياً خلال عشرات السنين أو مئات السنين ، حتى أصبح الجميع يذوقون شدَّة العذاب والهزائم في واقعنا اليوم !
ويبدو أنَّ إسرائيل تستفيد كثيراً من مواقفنا ونشاطاتنا . فانظر إلى النتيجة النهائية منذ سنة 1948م حتى هذا اليوم من عام 2006م ، نجد أنَّ إسرائيل قد كسبت مساحات جديدة من أرض فلسطين ، وجعلت صراعنا يتحوّل من تحرير فلسطين إلى تحرير ما يسمّيه الكثيرون : " الأرض المحتلة عام 1967م "! وكسبت كذلك ازدياد نفوذها في مناطق كثيرة من العالم العربي والإسلامي ، ونحن خسرنا أرضاً بالإضافة إلى ما خسرناه حتى سنة 1948م ، وخسرنا أهدافنا الكبرى ، وأشغلنا الصراع على فتات عن القضية الكبرى ، ولم يَجْرؤ بعضنا على الاعتراف الصريح بإسرائيل واكتفوا بالاعتراف الضمني وبأساليب تكشف الضعف والهوان مثل " الهدنة " وغير ذلك . وهذا يذكرنا بالقاعدة التي نذكرها في مثل هذه الحالات :
إذا التقى فريقان ، فريق له نهجه وخطته وأهدافه وإعداده ، وفريق لا نهج له ولا خطة ولا إعداد ، فإنَّ الفريق الأول صاحب النهج والإعداد ، يستطيع أن يحوّل كثيراً من نشاط الفريق الثاني لصالحه هو" أي : لصالح الفريق الأول" ، ويبوء الفريق الثاني بالخسران .
وقاعدة أخرى . تلك هي أنَّ الغرب العلماني لا يقف من الدين موقفاً جامداً واحداً . ولكن له أسلوبان على الأقل : إما البطش والإبادة إذا كان ذلك ممكناً وفي صالحه ، أو الفتنة بين المسلمين بأن يحوّل الاتجاه الديني لصالحه وكسب أكبر عدد من رجاله إلى صفه ليكونوا في خدمته وطوع أمره ، وليكونوا قوّة له بدلاً من أن يكونوا ضدّه . فانظر كيف أنَّ كثيراً من الدول العلمانية التي تصرُّ على علمانيتها وتمنع المسلمات من لبس الحجاب ، إلا أنهم يوجدون حركات تنصيرية يستغلّونها كما يستغلّون الحركات التجارية وشركاتها ليكونوا القوى الممهدة للغزو العسكري، كما حدث مع احتلال الإنجليز للهند الذي ساهمت فيه شركة الهند الشرقية والحركات التنصيرية . واليوم كسبوا عدداً غير قليل من المسلمين ليكونوا في خدمتهم ونصرتهم بدلاً من أن ينصروا أمتهم .
والملاحظة الأولى هي كيف تسنَّى للأسرى داخل السجون أن يصوغوا هذه الوثيقة ولم يتسنَّ للأسرى خارج السجون أن يصوغوا وثيقة تفاهم ، فالذين خارج السجون هم في سجن كبير ، وهم أسرى كذلك لا يملكون من أمرهم شيئاً ! وهم مفرّقون ممزَّقون والذين داخل السجون جمعهم السجن الضيّق .
والملاحظة الثانية : أن جميع البنود تجاهلت الإسلام ، وتجاهلت أنه ما زال في الأمة بقيَّةُ مسلمين ، وامتدَّت تعبيرات الجاهلية المكشوفة : المسؤولية الوطنية ونسوا المسؤولية بين يدي الله ، حماية الوحدة الوطنية ، وحدة الشعب الفلسطيني ، ونسوا الأمة المسلمة الواحدة ! يرفعون شعار الإسلام ويتنازلون عن الإسلام !
إنَّ المرحلة مرحلة تحرُّر طابعها الأساسي وطني ديمقراطي ..الخ إذن هي مرحلة تحرّر ! ولكن تحرّر من ماذا ؟! إنه تحرّر من الإسلام ، من الدين فقط ! فليستنجدوا بالوطنيَّة والفلسطينية والديمقراطية ما شاؤوا ! ألم تكف تجربة دامت أكثر من قرن أو قرنين ، ونحن نتحلل من الإسلام شيئاً فشيئاً ، نتحلل من الإسلام لندخل في هوى جاهليات متعددة : العروبة ، الشرعية الدولية ،الاشتراكية ، الديمقراطية ، العلمانية ، وغير ذلك . لا بُدَّ من إعلان الدعوة الإسلامية دعوة صريحة تقوم على الالتزام الأمين لينطلق من الإسلام كل موقف وكل حل .
إن موضوع الدولة الفلسطينية، كما ذكرنا من قبل ، ليس مشروعاً إسلامياً، ولا يقبله الإسلام ، إنَّه مشروع غير إسلامي ، مشروع يعترف نهائياً بإسرائيل وحقها بالوجود ، فالذين لا يعترفون بإسرائيل ولا يريدون أن يعترفوا عليهم أن ينأوا بأنفسهم عن وحول مشروع هذه الدولة ، ويبحثوا عن الحل الأمثل ، والحل الإيمانـي . الذي سبق أن طرحناه على الجميع منذ الخمسينيات في القرن الماضي وما زلنا نطرحه .
ومَضَت السِّنون منذ بداية القضية الفلسطينية حتى اليوم ، دون أن يُعدَّ المسلمون الإعداد الذي أمرهم الله به ، وإنما أعدُّوا أحزاباً متصارعة ، وقوى ممزَّقة ، وعصبيات جاهلية ! والأعداء أعدّوا أنفسهم كلَّ الإعداد .
لقد هُزِمَ بعض المسلمين ، واكتفوا من إسلامهم بالشعائر والشعارات ، دون الممارسة الإيمانية في الواقع . والإسلام قادر على تحقيق النصر ، حين ينهض جنوده المؤمنون يلتزمون منهاج الله حق الالتزام :
( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) [ الإسراء : 9]
( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ الأنعام : 153 ]
إنَّها حقَّاً لظاهرة غريبة أن تنهار حشود الدعاة تحت ضربات الديمقراطية والعلمانية ، كأنَّما لم تكن القلوب عامرة بالإيمان وبالثقة بالله . ولكن هذه سنَّة ثابتة من سنن الله يبتلي بها عباده ويمحصهم تمحيصاً ، ليكشف ما في النفوس ، ولتقوم الحجة يوم القيامة على الإنسان أو تقوم له . إنه ابتلاء شديد !
الحلّ البديل لما يجري واضح بيّنه الله لنا وفصّله :
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ الأنعام : 153 ]
· إنه مجاهدة أنفسنا ، والتبرُّؤ من جميع أشكال العصبيات الجاهلية !
· والتزام دراسة منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ......
· والتزام دراسة الواقع من خلال منهاج الله وردّه إليه ..........
· واتباع منهج موحّد للمسلمين في التربية والبناء كما كانوا أيام محمد r ، يلتزمه الجميع حق الالتزام حتى تتكون بينهم لغة تفاهم ، وفكر تفاهم ، وعواطف تفاهم ، ومنهج تفاهم ، ليقوم كله على : الولاء الأول لله وحده ، والعهد الأول مع الله وحده، والحب الأكبر لله ولرسوله ، وليكون بعد ذلك كلُّ موالاة وعهد وحبّ في الحياة الدنيا ينبع ويرتبط بالولاء الأول والعهد الأول والحب الأكبر ، ولتقوم بذلك أُخوَّة الإيمان التي أمر الله بها ، وليكون هذا النهجُ والمنهج قاعدة للقاء المؤمنين الصادقين المتقين الذين يريدون الله ورسوله والدار الآخرة ، ولتقوم أمة الإسلام الواحدة عزيزة قوية ، بدلاً من الأحزاب المتصارعة ! وإننا نقدم هذا النهج ـ نهج مدرسة لقاء المؤمنين .
· التبرُّء من أيّ شكل يوحي بالولاء أو الموالاة لمبادئ الغرب العلماني أو النصراني الذين يحاربون الله ورسوله محمداً r ، كالعلمانية والديمقراطية وغيرهما .
عندئذ تستطيع هذه الأمة الواحدة المتماسكة بأخوة صادقة ، أخوة الإيمان ، تستطيع أن تحرّر فلسطين ، وتجابه المستكبرين في الأرض ، المجرمين المفسدين! ولن يستطيع هؤلاء المجرمون أن يستدرجوا المؤمنين الواثقين بربهم إلى فتنة أو إلى هوان وهزائم .
( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ )[ الصف : 4 ]
هنالك دروس عظيمة يجب أن نتعلمها من مأساة قضية فلسطين ، ومن مأساة أفغانستان ، ومن مأساة العراق ، ومن مأساة لبنان ! ولكن الاستفادة من هذه المآسي تحتاج إلى القلوب المؤمنة لتردّها إلى منهاج الله ، لنأخذ منها العبرة والعظة والدروس . والسؤال هنا : لماذا لم نستفد من هذه المآسي ، ولماذا بقيت الأخطاء تتكرر ؟! ذلك لأن الذي يحكمنا هو الهوى . وليس أمام المسلمين إلا درب واحد للنجاة والعزّة . إنه هذا الدين وصراطه المستقيم ، حين يؤخذ الدين كله كما أُنْزِل على محمد r ، فلا يؤخذ منه أجزاء وتترك أجزاء :
( ..... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) [ البقرة : 85]
ليس أمام المسلمين اليومَ إلا التزام دين الله التزامَ صدقٍ وأمانة ، والتزام إيمان بالله وعبوديَّة له ، التزام يجمع المؤمنين كلهم أمة واحدة وصفَّاً واحداً . وأيُّ درب آخر فهو درب هلاك محقق للفرد وللجماعة وللأمة .
إن الله سبحانه وتعالى لم يَعِدْ أحزاباً متصارعة بالنصر ، إنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالنصر ، حين تتوافر فيهم الخصائص الربانية في الإيمان وفي العمل الصالح ، وحين يكونون أمة واحدة .
وإن نصيحتنا لكل مؤمن أن ينحاز إلى الصراط المستقيم الذي يجمع المؤمنين أمة مسلمة واحدة ، وأن يدعو إليه .
وننصح الجميع أن ينأوا بأنفسهم عن هذا الصراع الذي لا يكسبهم دنيا ولا ينالون به رضاء الله ، والذي يدفع الشعب الفلسطيني له ثمناً غالياً يرميهم بالذلّة والهوان .
إنَّ الخطأ الفادح الذي ارتكبته حماس هو دخولها في الانتخابات وموافقتها على مبدأ " الدولة الفلسطينية " في صورة متناقضة وشعارات متناقضة بين مسؤوليها في الداخل والخارج ، وحتى في الداخل بين حين وآخر ، مما أدى إلى صراع داخلي مع فتح استهلك الجهود ، ووضع الشعب الفلسطيني كله ليدفع ثمن هذا الصراع .
إنَّ هذا الاتجاه الجديد لحماس لا يتناسب ومبدأ المقاومة . فقد ذهبت الجهود في صراع داخلي بدلاً من أن تنمو المقاومة وتمتد . ومن حيث المنطق والمصلحة لدين الله لا يستقيم عمل المقاومة التي تحمل وجهة نظر خاصة ، وبين عمل الحكومة التي عليها أن تتعامل مع الواقع الدولي وتقلّباته . إنَّ هذا فرض على حماس أن تدخل في أساليب المناورات والأساليب التي تدفع إلى ارتكاب الخطأ واضطراب الخطوات ، والتي لا تتفق مع منهج الإسلام ، ولا تؤدّي إلى نصر حقيقي ! لقد أوقعت حماس نفسها في مشاكل كانت بغنىً عنها لو استمرت في خط المقاومة لتمتدَّ المقاومة وتنمو على نهج إيماني مدروس ! يجمع الأمة كلها على صراط مستقيم وعلى نيّة وعزيمة مجلوّة ، نرجو الله والدار الآخرة لا الدنيا ، بريئة من العصبيات الجاهلية .
إن الصراع الحالي وتبادل الاتهامات يوحي بأن الرغبة هي في الدنيا والسعي للمراكز والسمعة والصراع عليها . ولكن هذا لا يفيد الإسلام ولا دعوته ولا قضية فلسطين ، قضية الأمة المسلمة .