الوحدة الوطنية الفلسطينية: نظرة من الداخل
30-10-2010 - 11:19
بقلم: خالد بركات
لن تجد فصيلاً فلسطينياً مقاوماً، أو حزباً سياسياً في فلسطين المحتلة، لا يدعو إلى ضرورة تحقيق " الوحدة الوطنية الفلسطينية" واعتبارها شرطاً رئيسياً للصمود ومواجهة الاحتلال، إلى الدرجة التي صار يصعب التفريق والتمييز بين خطاب " البيان " الصادر عن حزب ماركسي لينيني أو بين حزب إسلامي أو قومي أو ليبرالي الهوية والشعار. كل القوى الوطنية والإسلامية تدعو للوحدة الوطنية، ويضاف إليها ما ينشأ في هذه الأيام من هيئات ولجان فلسطينية " مستقلة " وغير مستقلة ، بعضها يعرف عن نفسه باعتباره " خارج إطار التنافس والصراع الفصائلي " : على قاعدة فلسطينية تقول : ترى إحنا ما دخلنا!
ولا يرى الشعب الفلسطيني خارطة طريق وطنية تقوده إلى هذه الوحدة المنشودة. ذلك لأن مجموعة من العوامل والأسباب تفعل فعلها في الحالة الفلسطينية، وهي حقائق ( امبريقية ) لا يمكن إنكارها، أو التعامي عنها، أهمها، أن هذا " الانقسام الفلسطيني " بدأ مبكراً جداً، تحديداً في العام 1974، وهو ليس وليد الأمس، وللتذكير فقط، فقد شهدت مخيمات لبنان صراعاً داخلياً بين أبناء الحركة الواحدة، وصلت إلى استخدام الأسلحة الخفيفة والثقيلة، بما في ذلك دبابات تي 54 ومدافع الهاون وقذائف الار بي جي ، وقد حدث ذلك في زمن ( الفدائية) والثورة الفلسطينية، وقبل ولادة السلطة الفلسطينية العاجزة في العام 1994 .
كانت سلطة " فتح " موجودة ومهيمنة في المخيمات " الثورة" الفلسطينية، خاصة في لبنان، وكانت تمارس دور السلطة وما هو أبعد من ذلك، تقوم بالتحقيق وإصدار القوانين وشكلت أجهزة أمنيه منها ما يتصل " بجهاز الأمن الداخلي للثورة " و" جهاز الرصد " وغيرها، وكانت الحركة تصدر قرارات وأحكام تصل إلى حدود الإعدام وفق " لائحة القانون الثوري الفلسطيني " ومعظم هذه الممارسات كانت في إطار يستهدف عملاء العدو الصهيوني أو خصوماً سياسيين للحركة وياسر عرفات في لبنان.
ومنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في العام 1965 على يد حركة فتح، ولاحقاً انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، دخلت الساحة الفلسطينية وفي أكثر من مرة إلى محطات وعرة وشهدت شكلاً من أشكال" الانقسام الفلسطيني" تمثل ذلك في تصادم مستمر وعلاقات متوترة مشحونة بين " النهج العرفاتي " و " النهج الثوري " وقامت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بتأسيس ما عرف ب " جبهة الإنقاذ " و " جبهة الرفض " وغيرها من التكتلات الفصائلية في مواجهة قيادة التفرد والإقصاء التي رسختها فتح في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية والتي كانت بدورها تضم تحت جناحها ( ولا تزال) قوى فلسطينية حليفة وتابعة.
إن الخلافات الفلسطينية الداخلية حقيقية وقديمة، تتغير فيها الأسماء والرموز والعناوين ، لكنها تبقى حتى بعد كل " مجلس وطني توحيدي " لأن جوهرها يظل فاعلاً تحت رماد المشهد الوطني والقومي والدولي. ولأن خلافات الفلسطينيين تعكس حدة التناقض ووتيرة الصراع السياسي بين فريقين متعارضين لم يلتقيا إلا لماما وفي زمن الثورة والانتفاضة فقط، أما في زمن السلطة الفلسطينية " فالعلاقات الوطنية " تتغير والمصالح كذلك.
وكان الدكتور الراحل جورج حبش يمازح المرحوم ياسر عرفات أيام بيروت بالقول: " الحمد لله لا يوجد عندك سجن يا أخ أبو عمار " وحين تحولت الثورة الفلسطينية إلى سلطة أمنية صار بوسع من ورثوا المنظمة أن يختطفوا أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ويسلموه للغزاة الأجانب في الظلام. لأنه في السلطة كل شي يخضع للمبدأ الصفقة. .
الصراع الفلسطيني الداخلي هو صورة ( وإن لم تكن طبق الأصل ) للصراع الداخلي في لبنان والأردن والمنطقة العربية، وهو صراع بين معسكر التسوية حتى لو على حساب الحقوق الوطنية الفلسطينية، في مواجهة معسكر آخر بديل هو معسكر المقاومة الشعبية وقوى التغيير الديمقراطي . إن الأول يسعى لفرض هيمنته على الآخر، وإذا جرت تقاطعات وقواسم مشتركة أو إعادة صياغة للخارطة السياسية الداخلية أو إذا استوحش العدو، يضطر القوم للوحدة" ويسمى ذلك " وحدة وطنية " و" مصالحة داخلية " وخراريف من هذا النوع!
إن التناقض الفلسطيني الداخلي يقول حقيقة صارخة ننساها أحياناً، وهي أن الفلسطينيين في نهاية الأمر بشر ومخلوقات وطبقات وشرائح اجتماعية مثل سائر الجماعات البشرية وأن هناك قوى سياسية تتنافر وتتصارع. ولكلا المعسكرين، أصدقاء وحلفاء ونصف أصدقاء ونصف حلفاء، هذا يدلل على أن الخلاف الفلسطيني الداخلي أيضاً ليس كله " فلسطيني تماماً " وهو ينتمي لذاك النوع من الصراع الذي لا يمكن حسمه بالقوة المسلحة ولا بالعضلات والسجون وصناعة الفضائح والإشاعات، وهو باق ولو بوتائر ومستويات مختلفة، المهم أن يكون قوة إضافية لمشروع التحرير وليس عبئاً على الشعب والمقاومة كما هو الحال.
الصراع الفلسطيني الفلسطيني حين يخرج عن إطاره الطبيعي السلمي ( الحوار الوطني الديمقراطي ) يمكنه أن يتحول إلى غول يبلع الجميع. أولاً لأنه يعيق عملية المواجهة مع العدو الحقيقي، ويلجم القدرة الفلسطينية الشعبية على اتخاذ المبادرة والدفاع عن النفس. ويعطل قدرة الشعب في بناء مجتمع المقاومة ويقتطع من صمود الجماهير وثانيا، هو صراع يدفع ثمنه في العادة أبناء الطبقات الشعبية المطحونة في المخيمات وأحزمة البؤس. ولا يجلب كرامة أو يحقق النصر لاحد ، ولا يستشهد فيه احد ، وثالثا، يلقي هذا التناحر بشرائح واسعة من العمال والأطباء والمهندسين والفنانين والطلبة في دوائر الانعزال والإحباط واللافعل، ويشكل فرصة ذهبية للعدو ، ولكل طرف عربي يبحث عن حجة جاهزة للاستسلام والتسليم والتطبيع والاغتراب وتحميل الفلسطينيين عبئ القضية المركزية الأولى للعرب. .
الصراع الفلسطيني الداخلي يوفر الذرائع لجامعة الدول العربية للهروب من مسؤوليتها بحجة واهية تقول "شوف صراع الإخوة الفلسطينيين اللي ما بيوقفش دة"! ولذلك، كلما سألوا وزير الخارجية المصري عن الموقف إزاء العدوان الصهيوني وممارسات إسرائيل في القدس المحتلة، يتنهد الوزير ولا يتحدث عن العدوان الإسرائيلي بل يهرب نحو "صراع الإخوةالفلسطينيين الذي نتابعه عن كثب ونسعى لحله! "!
إن هذا التنافس بين حركتي "فتح" و"حماس" على رضى "المجتمع الدولي" يشوه بدوره صورة النضال الوطني الفلسطيني، ويخربش وعي الإنسان العربي، ويقسم كل شيء، بما في ذلك حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني التي لم تسلم هي الأخرى من تداعيات " الانقسام الداخلي ". وعليه ، فإن التقدم إلى الأمام في مشروع الوحدة الوطنية سيكون ممكنا بخارطة الطريق الفلسطينية التي تصوغها إرادة جماعية وعقل نقدي ويقظ، وتحميه قوى شعبية وأهلية، بديلا عن طريق الاستسلام بالمفاوضات – الضربات – المباشرة والغير مباشرة ! .
لا بد من إضعاف سطوة التناقض الداخلي الفلسطيني وكسر نبرته وتعزيز العلاقات الوطنية الفلسطينية في ميادين العمل والنضال ضد الاحتلال ، لكن في إطار يتجاوز " وحدة الفصائل " إلى وحدة الشعب والمجتمع ، والدفع أكثر نحو سلوك وقيمة التضامن الداخلي بدل الصراع المجاني والذي لا ينتصر فيه احد سوى العدو وحلفاؤه..