الطنطورة قريتي يؤكد عدد من المؤرخين العرب واليهود أن مجزرة قرية الطنطورة الفلسطينية التي تصادف ذكراها الستون في الثالث والعشرين من مايو/أيار أبشع المجازر التي ارتكبتها الصهيونية في فلسطين والبالغة نحو 77 مجزرة واستهدفت ترويع المدنيين وترحيلهم . وكانت وحدة ألكسندروني في الجيش “الإسرائيلي” قد أقدمت في 23 مايو/أيار عام 48 على ارتكاب المجزرة بحق أهالي قرية الطنطورة قضاء حيفا غداة احتلالها وما لبثت أن هجرت السكان للضفة الغربية والأردن وسوريا والعراق .
ويشير المؤرخ د . مصطفى كبها إلى أن الجيش “الإسرائيلي” اختار الهجوم على قرية الطنطورة التي بلغ عدد سكانها آنذاك1500 نسمة كونها الخاصرة الأضعف ضمن المنطقة الجنوبية لحيفا لأنها تقوم على ساحل البحر المتوسط وسهلة الاحتلال بعكس سائر القرى المجاورة على قمم جبل الكرمل .
أشار كبها في تصريح ل”الخليج” إلى أن الجيش “الإسرائيلي” استهدف القرية في ليلة الثاني والعشرين من مايو/أيار بقصفها من البحر قبل مداهمتها من جهة الشرق في الليلة نفسها .
ويلفت إلى أن الجيش اختار الطنطورة بالذات لا لسهولة مهاجمتها فحسب بل لكونها مرفأ منه كان يصل السلاح للفلسطينيين وأضاف “تركت المجزرة في الطنطورة أثرا بالغا في الفلسطينيين، في القرى المجاورة ومهدت لتهجيرهم” .
في المقابل أكد المؤرخ “الإسرائيلي” تيدي كاتس الذي كان تعرض لدعوى تشهير من قبل وحدة ألكسندروني بعد كشفه عن ملابسات المجزرة في الطنطورة بدراسة ماجستير لجامعة حيفا عام 1998أن الشهادات التي حاز عليها تشير إلى سقوط 230 فلسطينياً ضحية المجزرة .
وينوه كاتس في دراسته إلى أن موطي سوكلر حارس الحقول اليهودي في تلك الفترة كان قد كلف من الجيش برعاية دفن الموتى، موضحاً أنه كان قد عدّ الضحايا بعد قتلهم على شاطئ البحر وداخل المقبرة .
ويشير المؤرخ د . إيلان بابه إلى أن خطورة مجزرة الطنطورة واختلافها عن سائر المذابح في فلسطين لا من ناحية كثرة عدد ضحاياها فحسب بل بارتكابها على يد جيش “إسرائيل” بعد أسبوع من إعلان استقلالها .
ويشدد بابه في كتابه حول التطهير العرقي في فلسطين على أن مجزرة الطنطورة التي وقعت بعد نحو الشهر من مجزرة دير ياسين قد استهدفت تحقيق الهدف الصهيوني المركزي المتمثل بتطهير البلاد عرقيا بقوة السلاح وترهيب المدنيين وتهجيرهم .
مقاومة شريفة
ويؤكد الحاج فوزي محمود أحمد طنجي( ابو خالد) أحد الناجين من المجزرة والمقيم في مخيم طول كرم اليوم في شهادته ل”الخليج” أن قشعريرة تجتاحه كلما يتذكر كيف ذبح أبناء عائلته وأصدقاؤه أمام ناظريه، فيقول: “أخذنا الجنود إلى مقبرة القرية وهناك اوقفونا في صفوف وجاء قائدهم وقال مخاطبا إياهم: “خذوا عشرة منهم” خلف أشجار الصبّار وارموهم بالنار وهكذا صار . . ثم عادوا وأخذوا عشرة آخرين لإخلاء الجثث ودفنها في حفرة حفرناها بأيدينا قبل أن يطلق النار عليهم” .
وتابع أبو خالد وشرار الغضب يكاد يقفز من ناظريه: “هكذا تكرر تباعا” .
وروى أبو خالد ابن الثمانين عاما أن الجنود اصطحبوا من تبقى على قيد الحياة إلى شاطئ البحر استعدادا لجمع ما تبقى من السلاح في المنازل، مشددا على أن رجال القرية دافعوا بشرف عن القرية منذ منتصف الليل حتى نفدت ذخيرتهم في السابعة صباحا .
وعلى شاطىء الطنطورة أخذ الجنود يفتشون الرجال فعثروا على ورقة حملت أسماء حراس القرية المسلحين ومسؤولهم توفيق الهندي فأخذوا ينادونهم بالاسم فيقتلونهم بعد إحضار البنادق التي فرغت من الرصاص منذ الليلة السابقة .
ويضيف: “عندما نادوني تجاهلتهم فأخذوا ابن عمتي حسين سعد طنجي ليرشدهم علي من بين الرجال فمر عني وشاهدني جالسا بينهم ورغم تلاقي عيوننا لم يخبرهم عني خوفا من قيامهم بقتلي فخفت أن يقتلوه بدلا مني فكشفت عن هويتي فاقتادوني لجلب السلاح من منزلنا” .
حفر القبور
ويستذكر أبو خالد أنه في الطريق إلى البيت بحثاً عن السلاح أطلق الجنود المرافقون له النار على سليم أبو الشكر(75 عاما) ويضيف “عندما وصلنا البيت كان الباب مقفلا، والدماء تسيل من تحت الباب، فخلت أنهم قتلوا أمي فدخلت ودموعي على خدي فوجدت كلبي مقتولا، ولم أجد أمي فقلت لهم: لا أعلم أين أخفت أمي السلاح، فدفعني أحد الجنود وأرجعني نحو الشاطئ وفي الطريق فتحوا النار على السيدتين عزة الحاج ووضحة الحاج” .
ويؤكد الناجي من المجزرة بعيون تقطر بالأسى أن الجنود قاموا بتصفية ما يقارب20-30 شابا بالقرب من بيت آل اليحيى على شاطئ البحر وقتلوهم، ولما عادوا وضع الجنود أبو خالد مع مجموعة من الرجال مكتوفي الأيدي فاستغل جلوسه في نهاية الطابور وقام بحل وثاقه وزحف نحو المجمع الكبير لسكان القرية وبذلك نجا .
وبحسب رواية أبو خالد، قام الجيش بالفصل بين الرجال ممن أجبروا على الركوع وبين النساء والأطفال والشيوخ وكشف أن أحد الجنود حاول الاعتداء على فتاة من عائلة الجابي، فنهض أبوها لنجدتها فقتلوه طعنا بالحراب فيما واصل الجنود تفتيش النساء وسرقة ما لديهن من حلي ومجوهرات .
ويعود أبو خالد بذاكرته ليشدد على جريمة الجنود حينما أمروه وآخرين بحفر خندق بطول40 مترا، بعرض 3 أمتار، وعلى عمق متر واحد داخل المقبرة ثم بدأوا باقتياد دفعات من رجال الطنطورة لنقل الجثث ورميها بالخندق وعندما حاول فيصل أبو هنا، مقاومتهم، قتلوه بحراب البنادق .
ويضيف: لو عشت ألف سنة لن أنسى ملامح وجوه الجنود فقد بدوا لي مثل ملائكة الموت، وأنا انتظر دوري متيقنا أنها لحظاتي الأخيرة . ليتني مت هناك بدلا من التهجير وتذكر هذه القصة حتى اليوم .
رسلان حسن أيوب اعمر
ويروي الحاج رسلان حسن أيوب أعمر وقد نجا هو الآخر من مجزرة الطنطورة رواية مطابقة عن مجزرتها فيقول: “أثناء وجودي بين الرجال أمرني أحد الجنود بانتشال جثة أحد الشهداء الملقاة بين أشواك الصبار فرفضت وعندها وجه فوهة البندقية إلى رأسه فرميت نفسي بين شجيرات الصبار وسحبت جثث الشهداء وجسدي يرشح دما جراء الأشواك .جمعنا نحو 70 جثة” .
ويستذكر الحاج اعمر كيف جاء جندي مصاب بيده واستأذن الضابط بإعدام اثنين منا انتقاما لجرحه من معركة الليلة الماضية فأشار للشخص الذي يقف جانبي بلا اكتراث وأضاف “كان ذاك الرجل قد انتهى للتو من دفن جثتي شقيقيه فسار مسافة 100 متر وأطلق عليه النار وأرداه قتيلا” .
ويتابع الحاج رسلان وقد تجهم وجهه وتصبب العرق من جبينه وهو يتابع “تقدم جندي آخر مني وصوب سلاحه نحوي واستنهضني من مكاني وهو يدفعني بأعقاب بندقيته بقوة فسقطت أرضاً”، ويضيف: داخل المقبرة أجبرونا على حفر قبورنا بأيدينا ولولا تدخل بعض يهود زخرون يعقوب لكنت في عداد الموتى فقد اقترحوا على الجنود أخذنا للأسر بدلا من قتلنا فمكثت وآخرون ثماني ساعات في معتقل زمارين قبل نقلنا إلى سجن أم خالد ثم إلى إجليل حيث مكثت 11 شهرا . . وأخيرا أقول: “دولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى يوم قيام الساعة” .
ويشير الطبيب د . عدنان يحيى المقيم اليوم في ألمانيا وهو شقيق وزير الداخلية الفلسطيني عبد الرزاق يحيى، إلى أنه قد ولد في الطنطورة في 12/10/1930 وأن كابوس المجزرة لم يفارق مخيلته لحظة واحدة . ويقول “جمعونا قرب بيتنا على شاطئ البحر، الرجال في جهة والنساء في جهة أخرى، وبقينا تحت الشمس الحارقة حتى بعد الظهر بقليل من دون طعام أو ماء بل من دون السماح لنا بالتبول فكنا نقضي حاجتنا أمام بعضنا” .
يستهل د . يحيى شهادته الهاتفية ويضيف: “أمر الضابط جنوده بنقل 40 رجلا كنت أحدهم وأفهم العبرية قليلا بعد دراستها في حيفا . ساقونا إلى المقبرة حيث أمرونا بحفر حفرة كبيرة وبنقل جثث من قتلوهم قبالة شجر الصبار، ومن أبشع الصور التي ترافقني حينما حملت وصديقي رجلا لنلقيه في الحفرة وإذ به يتوقف باكيا وهو يقول: عدنان . . هذا أبي وهو ما زال حيا . . ماذا أفعل؟
فقلت: ألقه بالحفرة ولاشك سنتبعه نحن أيضا . لم يبق من مجموعتي سوى 16 شخصاً على قيد الحياة فيما قتلوا البقية أمامنا وهم يقهقهون” .
ويشير د . عدنان إلى أن القتل توقف قبل الغياب بقليل بعد تدخل بعض سكان مستعمرة زخرون يعقوب(زمارين) فحملونا بسيارات شحن كالحيوانات إلى سجن زمارين حيث عشنا في ظروف قاسية للغاية كأننا داخل علبة سردين قبل نقلنا لسجن أم خالد” . " وديع عواودة "
المجزرة التي حاولت "إسرائيل" اخفاءها
“الطنطورة قصة شعب وأرض رفضوا الاستسلام فأدركهم الموت” جاءت في مقدمة دراسة الماجستير لمحمد فوزي طنجي من مخيم طولكرم.
ما الذي يخيف “إسرائيل” من الاعتراف بارتكابها لمجزرة الطنطورة التي راح ضحيتها 230 مواطناً فلسطينياً في 22 مايو/أيار 1948؟ أو الكشف عن حقائق نكبة 1948 وتهجيرها وتدميرها للقرى والمدن الفلسطينية؟
تعتبر هذه الدراسة، البحث العلمي الأول الذي قدم في إطار الدراسات المتقدمة والذي احتوى على ما يزعزع القصة الصهيونية حول حرب 1948 والمجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في سبيل إقامة “إسرائيل” اليهودية القومية . هذه الأطروحة لا تتخفى وراء أحاديث ما بعد الحداثة، عندما تأتي لتقدم أقوالا قاسية عن السلوك الأخلاقي الصهيوني و”الإسرائيلي” في الماضي .
إن الرد على قضية الطنطورة يعكس تقلب المواقف في “إسرائيل” نتيجة لاندلاع انتفاضة الأقصى وبشكل خاص الأحداث داخل “إسرائيل” نفسها، وصمت صوت النقد الأخلاقي الصهيوني .
لا يمكن التمييز بين مجزرتي جنين والطنطورة، هذا هو الجيش “الإسرائيلي” الذي نفذ مجزرة الطنطورة في العام 1948 وهو نفسه الذي نفذ مجزرة جنين في العام 2002 ومجزرة رفح ،2004 والمجازر التي ترتكب كل يوم، ولا يمكن لأحد تجاهل هذه الحقيقة .
المجزرة ارتكبت في شهر22 مايو/أيار من العام ،1948 أي بعد إعلان قيام “إسرائيل” في المناطق الفلسطينية التي حددتها لها هيئة الأمم المتحدة بعد قرار تقسيم . وهذا يعني أن طرد أو قتل الجيش “الإسرائيلي” لسكان هذه المناطق الخاضعين لسيطرتها يعني قتل دولة لمواطنيها، وهذا يعني بصراحة لا فرق بين ما ارتكبه الجيش “الإسرائيلي” من قتل في الطنطورة وبين قتل 13 فلسطينيا من داخل ما يسمى “الخط الأخضر” في أحداث أكتوبر/تشرين الأول 2000 .
في حينه نحن لا نتحدث عن تنظيمات إرهابية صهيونية (هاغاناه، أرغون، شتيرن) نفذت المجزرة إنما عن جيش رسمي للدولة التي كان السكان يعيشون داخل حدودها، وهذه جريمة وعلى منفذيها تحمل نتيجة أعمالهم، ومن حق كل فلسطيني تضرر أن يحصل على تعويضات .
إن الحديث عن هذه المجزرة اليوم يؤثر في الموقف “الإسرائيلي” في أية مفاوضات ستجرى مع الفلسطينيين بكل ما يتعلق بحق العودة للفلسطينيين . إن “إسرائيل” حريصة اليوم على الحفاظ على حقها من الألمان بدفع التعويضات لليهود الذين تضرروا من النازية في المانيا، وإذا ما اعترفت بارتكابها هذه المجزرة، التي قدمتها فذلك يعني اعترافها بالمجزرة وبالتالي فهي ملزمة بدفع التعويضات للفلسطينيين تماما كما تحصل هي على التعويضات من ألمانيا .
ف “إسرائيل” أرادت إلغاء أي بحث يختص في النكبة حتى لا تسمح للأجيال القادمة باستعماله كمرجع لهم . لقد أرادت أن تخفي عن الأنظار مثل هذه المجازر التي ارتكبتها، ولكن إذا كانت “إسرائيل” تقصد بأن تصم آذان العالم عن سماع حقيقة أفعالها، فقد حققت بمعارضتها لعودة اللاجئين الفلسطينيين للأراضي ،1948 أو فتح ملفات نكبة ،1948 كما فعلت مع الباحث “الإسرائيلي” كاتس وتوجيه التهم ضده، أو محاولة طرد المؤرخ “الإسرائيلي” الدكتور بابيه من جامعة حيفا عكس ذلك، إذ جعلت العالم كله يعرف تفاصيل جديدة ومرعبة عن هذه المجزرة، التي ستنتهي معركة معارضة هذا البحث بإدانة هذه المجزرة من قبل العالم كله .
والى جانب هذا، كان هناك خوف كبير لدى “الإسرائيليين” بحيث قدمت هذه الدراسة في وقت بحثت المحكمة الدولية لمجرمي الحرب إمكانية محاكمة شارون، والخوف لدى “إسرائيل” بعد مجزرة جنين من أن يتم تقديم الجنود الذين ارتكبوا أعمال قتل ضد الفلسطينيين إلى هذه المحكمة، وكان هذا وحده كافيا لهم . والدراسة جاءت لتؤكد على الأعمال الإجرامية التي يقوم بها الجيش “الإسرائيلي” ضد الفلسطينيين .
إن طرح الدراسة لا يخيف “إسرائيل” فحسب، فهناك من أسمعهم اليوم يقولون “خسارة لأننا لم ننه كل هذا الأمر (القضاء على الفلسطينيين) في العام 1948”، تلك النكبة التي ما زالت الى اليوم في رأس قيادات الحركة الصهيونية للحكومات “الإسرائيلية” المتتالية . وهنا يجب أن اذكر انه قبل الحرب الأمريكية على العراق جرى الحديث أكثر من مرة أن ارييل شارون كان ضمن وحدة الكسندروني، التي نفذت مجزرة الطنطورة .
إن المعارضة “الإسرائيلية” لهذه الدراسة في هذه الفترة بالذات ليست صدفة . فهي اليوم تريد أن تظهر نفسها بأنها واحة السلام في هذه المنطقة وواحة الديمقراطية في العالم العربي، وهي في الحقيقة بعيدة كل البعد عن الإنسانية .
إن البحث حول النكبة يجب أن يكون جزءا من معركة جماهيرية تستند إلى مواقف حادة وواضحة من الصراع، تتناول قضايا مثل التعويض، حق العودة الفلسطيني، والمسؤولية الأخلاقية “الإسرائيلية” التي يجب ان تطرح على كل جدول أعمال في محادثات السلام التي تجمدت، كما أن البحث حول النكبة يحتاج إلى حماية ومظلة دوليين . البحث التاريخي، والمعركة الجماهيرية والحماية القانونية، كلها يجب أن تكون جزءا لا يتجزأ من عمل أكاديمي .
هذه المعركة لن تحرر الاكاديميا “الإسرائيلية” من انحيازها الإيديولوجي الصهيوني، ولن تحولها إلى موقع بحث حيادي وموضوعي . ولكنها ستدخل إليها أصواتا أخرى جرى إسكاتها بسبب الايديولوجيا المهيمنة المسيطرة اليوم على الاكاديميا “الإسرائيلية” . " محمد فوزي طنجي "