الوحدة الوطنية الفلسطينية.. مواصفات المثال وحدود الواقع
يحظى هدف الوحدة الوطنية الفلسطينية بجاذبية لا تقاوم لدى كل الغيورين على مسار النضال التحرري الفلسطيني ومصيره. وبالنسبة للبعض ترقى أهمية السعي إلى تحقيق هذا الهدف إلى مرتبة الأولوية القصوى والشرط الشارط لمتابعة كل ما عداه من أهداف.
غير أن التعلق بالوحدة الوطنية إلى هذا الدرجة من القداسة، ينطوي رغم نبله على شيء كثير من اللاواقعية وعدم الاكتراث بما يدور على الأرض. وأغلب الظن أن من يرهنون سيرورة الحركة الكفاحية الفلسطينية بالوصول إلى اصطفاف كل القوى المنغمسة في هذه الحركة داخل تنظيم جامع مانع واحد موحد، مثل كتلة إسمنتية "حجرية أو صخرية صلدة"، إنما ينشدون شبه المستحيل. ولو أن هذه القوى أخذت بهذه الرؤية أو المنهجية كضرورة مسبقة، لما قامت للحركة التحررية الفلسطينية قائمة من الأصل.
هناك فرق كبير بين العمل الوطني عبر الكتلة التنظيمية بالمواصفات القياسية المذكورة، المغلفة والمحشورة بصبغة - طوباوية مثالية مفرطة، وبين العمل بما يتوفر من عناصر حقيقية ملموسة تتحرك في إطار محددات صارمة وقيود منظورة لا يمكن الفكاك منها بسهولة، وعبقرية الحركة الوطنية والمتحرقين إلى وحدتها المعيارية تتأتى من التعامل مع أطر الواقع ومحدداته بدون التخلي عن المثال رغم الصعوبات المنتصبة في طريقه.
ما نود لفت الانتباه إليه، هو أن طهرية القائلين بالوحدة الوطنية لا ينبغي أن تشغلهم عن استمرارية الحركة النضالية بشروطها وحدودها المتوفرة، مع السعي إلى تحسين هذا الشروط وتذليل ما ينشأ عنها من معوقات. هذا وإلا قادتهم هذه الطهرية إلى القعود والسكينة انتظاراً لحالة قد لا تحدث إلا بمعجزة في عصر اللامعجزات وتذكرنا هذه الوضعية بتلك الآراء التي تعلق قضية الشروع في التحرر الوطني على بلوغ الديمقراطية أو التنمية.. هذا مع أن الشعوب المستعمرة لو أخذت بهذا الترتيب، لما نشأت حركة تحرر على الإطلاق!
قد يقال بأن حركة تحررية لم تتمكن من الانتصار بدون التوفر على شرط الوحدة الوطنية. هذا صحيح. غير أن معظم إذا لم يكن كل هذه الحركات اجتهدت لاجتراح هذه الشرط ومقاربته أثناء مسيرتها الكفاحية ميدانياً. كما أنها كانت أكثر تواضعاً عندما حددت لذاتها أهدافاً أقل طموحاً من "التوحد الكامل" على الطريقة الطوباوية التي يطلبها البعض في النموذج الفلسطيني راهناً.
ومن هنا كانت الصيغ الجبهوية الائتلافية "كما حدث في الجزائر وفيتنام مثلاً". ولنا أن نلاحظ في هذا السياق كيف أن منظمة التحرير الفلسطينية مثلت مطولاً النظير الفلسطيني لهذه الصيغ.
لقد كانت المنظمة تعبيراً عن الاعتراف بالفروق النسبية بين القوى المنضوية فيها، وهي سعت إلى إدارة هذه الفروق عملا بنظرية "القواسم المشتركة". ويعرف الذين تابعوا مسيرة المنظمة عن كثب أن مؤسسها ورئيسها الأول أحمد الشقيري، حاول في باكورة عملها أن يأخذ بمفهوم الوحدة الكلية "الإسمنتية"، متجاوزاً بذلك الواقع نحو المثال دفعة واحدة.
بيد أن خطوته لحرق المراحل وركوب الصعب انتهت إلى الفشل. فما كان من ورثته إلا أن عدلوا عن تلك المنهجية إلى ما هو "تاريخي" وممكن وأكثر انسجاماً مع حال الشعب الفلسطيني وتنظيماته الناشطة فكرياً وحركياً.
التشديد على معالجة قضية الوحدة الوطنية من داخل "التجربة التاريخية" الفلسطينية مسألة مهمة جداً لمن أراد لهذه القضية أن تمر بسلام فالمجال السياسي الفلسطيني لم يعرف يوماً التجربة التنظيمية الواحدة، الشمولية، لا قبل النكبة ولا بعدها، في أواخر العهد العثماني كان هناك اللامركزيون الذين تطلعوا لاستمرار سيادة الباب العالي والذين أثروا الاستقلال الكامل.
وبين الحربين العالميتين توزع الفلسطينيون بين كتلتي الحسينيين والنشاشيبيين "نسبة إلى الحسين وآل النشاشيني" ومنمنمات حزبية أقل شأناً. ولم تقم منظمة التحرير منذ ستينيات القرن الماضي كائتلاف جبهوي مثلاً منفرداً، فقد سبقتها اللجنة العربية العليا في الثلاثينيات والهيئة العربية العليا في الأربعينيات والخمسينيات.
مؤدى ذلك أن الموروث السياسي الفلسطيني يبدو لافظاً لمفهوم الشمولية التنظيمية متسامحاً مع فكرة الائتلاف العريض. هناك عوامل موضوعية لهكذا موروث.. عوامل يمكن مناقشتها والتناظر حولها، ولكن لا يتعين على منصف تجاهلها والقفز عليها لفرض رؤية مصنوعة من قماشة غير قماشة التاريخ الفلسطينية ومحتواه، مهما كانت النوايا حسنة والسرائر طيبة.
ولكن إذا كان حشر الفلسطينيين بكل ألوان طيفهم السياسي الفكري في عربة واحدة يبدو أمراً مفارقاً للتجربة التاريخية بل وللطبيعة البشرية، فكيف سيتمكن هؤلاء من تحقيق أهدافهم الوطنية التي يعز تحقيقها بغير حد معقول وفاعل من الوحدة الداخلية؟ هذا هو السؤال "التحدي" الذي يفترض من كل العاطفين على حركة التحرر الفلسطيني بذل الجهد والوقت لإبداع إجابة عنه.
ولا يصح في هذا الإطار أن يركن هؤلاء إلى أسهل الإجابات. تلك التي تقدم نصيحة أبوية أو إرشادية الطابع قوامها أن على الفلسطينيين أن يتوحدوا تماماً لينتصروا علماً بأن بعض الناصحين لا يخدمون - عن غير قصد وأحياناً عن خبث - هذا الهدف النبيل حين يبررون مأزق القضية الفلسطينية الممتد بانعدام وحدة القوى الفلسطينية!
ذلك لأن لهذا المأزق، فضلاً عن الهزائم العربية المتوالية في مواجهة التحالف الصهيوني الاستعماري، أسباباً أخرى أكبر وأعمق بكثير من أن تحال إلى وضعية الحركة الفلسطينية برمتها توحداً أو تشرذماً.
ندرك أن القول بصعوبة تبلور الوحدة الوطنية الفلسطينية بالمفهوم القياسي قد لا يعجب البعض. لكن التأسيس على حقيقة تاريخية كهذه أفضل بكثير لقضية الوحدة الوطنية من الإسناد إلى نوازع رغبوية قد تؤدي القعود والشعور بالعجز. ولعلنا نذهب إلى أبعد من ذلك، وهو أن ساحة التناظر العربية بخصوص هذه القضية لا تقدم كما ألمحنا وجود خبثاء حقيقيين.
من الذين يحملون القوى الفلسطينية مالا طاقة لها به، بزعم أن كل شيء سيكون على ما يرام من حيث موقف العرب في الصراع "أو التسوية" مع "إسرائيل" بمجرد إطلال الوحدة الوطنية الفلسطينية القياسية.. وكأن القوى الفلسطينية تعيش في كوكب آخر، ولا تتأث[/font]ر بالتنابذ الع[/b]ربي حول م[/size]سار هذا الصر[/font]اع ومص[/size]يره!.[/color][/color]